ـ "... إن فى الإنسان منطقة عجيبة سحيقة لا تصل إليها الفضيلة ولا الرذيلة ، ولا تشع فيها شمس العقل والإرادة ، ولا ينطق لسان المنطق ، ولا تطاع القوانين والأوضاع ، ولا تتداول فيها لغة أو تستخدم كلمة ... إنما هى مملكة نائية عن عالم الألفاظ والمعاني ... كل مافيها شفاف هفاف يأتي بالأعاجيب فى طرفة عين ... يكفي أن ترن فى أرجائها نبرة ، أو تبرق لمحة ، أو ينشر شذا عطر ، حتى يتصاعد من أعماقها فى لحظة من الإحساسات والصور والذكريات ، ما يهز كياننا ويفتح نفوسنا على أشياء لا قبل لنا بوصفها ، ولا بتجسيدها ، ولو لجأ إلى أدق العبارات و أبرع اللغات ... " ـ

توفيق الحكيم

Within man lies a deep wondrous spot, to which neither virtue nor vice can reach. Upon which the sun of reason and will never rise. In which the mouth of logic never speaks, the laws and rules are never obeyed, and not a language is used nor a word is ever spoken.
It is a distant Kingdom, beyond words and meanings. With everything is a sheer murmur offering wonders in a blink. From the depths of which, suffice a single tone or a flash of mind or a scent of a perfum, to allow rise of emotions, pictures and memories, a rising that will shake our being and open ourselves to things we can neither describe nor materialize even if we used the most refined of phrases or the most skillful of languages.

Tawfiq Al-Hakim.
(My humble transalation of the arabic text)

Friday, March 12, 2010

بصـراحـة ... آه

في الميزان
قـرار خاطـيء‏!!‏
بقلم: أشرف عـبدالمنعم
دلفت إلي داخل الفندق الذي اعتدت النزول به ضيفا كلما أتيحت لي الفرصة في زيارة العاصمة الفرنسية ـ باريس ـ فكان أن وجدت ما سلب مني بصيص من الفرحة‏;‏ حيث وجدت الفندق برمته تحت التجديد‏:‏ فالسقالات ممتدة بطول المدخل وعرضه توحي للناظر إليها بأعمال طلاء وبعض إصلاحات وترميمات لثنايا الزخارف الدقيقة التي يزدان بها هذا الفندق العتيق الجديد المتجدد دائما أبدا‏;‏


‏ كل ذلك يدور دون إسالة قطرة طلاء واحدة هنا أو هناك‏,‏ وانما الأعمال توحي بأنها تتم في هدوء شديد وحرص أشد علي عدم إزعاج النزلاء أو تعكير صفو إقامتهم‏,‏ اللهم إلا من بعض حواجز هنا أو هناك كان لابد من إقامتها وفق متطلبات العمل‏,‏ يتغاضي عنها الجميع طوعا لضرورتها‏.‏
وفي الصباح أيقظتني الذكريات في هذا البلد الأمين كي اغترف منها ما اغترف فأملأ نفسي الظمآي التواقة لمثلها‏,‏ فسارعت ـ علي عكس عادتي ـ بالاستعداد للخروج‏,‏ وفتحت الباب باكرا لأجد العمال كما توقعتهم يرتدون ملابس العمل التي لفت انتباهي أنها غير ملطخة بالبقع والبويات كما اعتدناهم عندنا‏,‏ تعتلي رأس كل منهم خوذة بلاستيكية اعتدنا رؤيتها في الكاتالوجات فقط‏,‏يمسك كل منهم بأدواته ويتعامل بحرفية مع ما أوكل إليه من أعمال‏,‏ وقد خيم الصمت عليهم إلا من بعض حكات بالحائط هنا أو هناك لا مفر منها‏,‏يفترشون الأرضيات بقطع من المشمع تم تثبيتها بحرص من الأطراف‏.‏
فلما وجدت أنني لست بحاجة ماسة إلي استخدام المصعد وأنا الواقف علي ارتفاع طابقين من سطح الأرض‏,‏ كان أن قررت أن أترجل السلم الفخم هبوطا يحفني علي الجانبين‏'‏ درابزين‏'‏ خشبي ترفعه حليات نحاسية أتقن صنعها‏,‏ تقودك في نهاية السلم إلي تمثالين معدنيين يرفعان في شموخ شعلة من ضياء كهربية‏.‏
نزلت درجات السلم حتي كانت أكبر صدمة في حياتي وأنا أسمع بعض حوارات جانبية بين هؤلاء‏:‏ إن العمال الذين أراهم من حولي يمارسون كل هذه الأعمال بحرفيه هم عمال مصريون ـ نعم‏,‏ إنهم عمال مصريون‏!!‏ يا لهول الصدمة والفرحة معا‏,‏ أما زال بيننا عمال قادرين علي تنفيذ الأعمال بشكل متحضر علي هذا النحو الذي أراه؟ أين هؤلاء إذن من هؤلاء الثكلي الذين نراهم حولنا في مدينتنا البائسة ـ القاهرة ـ وجميع المدن الأشد بؤسا من حولها؟ أين الملابس الرثة؟ أين المظهر الملطخ بالبقع المتراكمة عبر السنين؟ أين الصوت المرتفع دائما حين الكلام مطرزا بالشتائم والسباب لبعضهم بعض؟ أين أكواب الشاي بمعدل كوب كل عشر دقائق؟ وأين بالله عليك أعقاب السجائر المتناثرة من حولهم‏,‏ وصفحات الجرائد الملقاة تفترش الأرض‏,‏ وبقايا سندوتشات في الأركان‏,'‏ وأشياء أخري‏'‏ في الأركان يقدمون علي تلويث المكان بها في غياب دورات المياه ـ أو حتي في أوج وجودها؟‏!‏
أين هذه الثقافة المتدنية من هذا التحضر الذي رأيته وشعرت بأيما زهو وسط الفرنسيين بمصريتي بفضله؟‏!‏
هل تراها ظروف الثقافة القوية المحيطة بهؤلاء التي تأبي تنفيذ العمل علي أي نحو مغاير؟ أم تراها بذور حضارة تشتاق إلي من وما يرويها داخل نفوس المصريين عموما؟ أم تراه حسن مناخ إداري محيط؟ أم تراه مناخ منافسة عام يحفز البشر علي استدعاء واستحضار روح الإجادة؟ أم تراه خليطا من كل ذلك؟ لا أعلم‏!!‏
ثم لأجدني أطيح برأسي المثقلة إلي الوراء لأستقر بها علي مخدع الكرسي‏,‏ وأغمض عيناي‏,‏ فأستعيد مشاهد مما قرأت عنه ـ ولم أعاصره للأسف ـ في الماضي ليس البعيد لأكتشف أن أكبر جريمة يبدو أننا قد ارتكبناها في حق أنفسنا دون أن نعلم‏,‏ وفي غمار روح الوطنية العنترية التي واكبت التخلص من المستعمر‏,‏ هي أننا فرطنا في وجود الأجانب المقيمين من الجاليات المختلفة في بلادنا ـ وليس جيوشهم ـ والتي كان لها علي ما يبدو أثر بالغ في تفعيل روح المنافسة ورفع مستوي الإجادة‏,‏ علي خلفية ما حملته هذه الجاليات من مهارات مكتسبة متوارثة في مجتمعاتهم جلبوها معهم ووطنوها في هذه الأرض الطيبة‏,‏كان لها شديد الأثر في تحفيز المصريين علي اكتساب المهارات بغية المنافسة‏.‏
يبدو أن وجود البقال والجرسون والتاجر اليوناني كان مهما‏,‏ ويبدو أن وجود المهني الأرمني كان مهما‏,‏ وأن وجود مدرس الموسيقي الروسي كان مهما‏,‏ وأن استمرار وجود الخياط الإيطالي والفرنسي كان مهما‏..‏ و‏(‏غيرهم‏)‏ كثر‏!!‏
كما يبدو أن رحيل هؤلاء‏(‏ فجأة‏)‏ كان من شأنه أن ترك خواء رهيبا استحوذ فيه الفكر الكسول وتسيد‏,‏ فأفرز هذا التدني‏!!‏ والله أعلم

جريدة الأهرام القاهرية
الجمعة 26 من ربيع الاول 1431 هـ 12 مارس 2010 السنة 135 العدد 45021

No comments: